حوار حول حركة جيل Z-212  في المغرب

  د. محمد قنفودي/ كاتب وباحث في علم الاجتماع   كيف تفسّرون بروز حركة جيل Z-212 في هذا التوقيت تحديدًا؟ وهل ترونها امتدادًا لغضب اجتماعي متراكم أم حراكًا عفويًا لجيل جديد من المغاربة؟ ظهور حركة جيل Z-212 في المغرب لا يمكن قراءته باعتباره حدثا طارئا أو راهنيا من ناحية الزمن…

 

د. محمد قنفودي/ كاتب وباحث في علم الاجتماع

 

  1. كيف تفسّرون بروز حركة جيل Z-212 في هذا التوقيت تحديدًا؟ وهل ترونها امتدادًا لغضب اجتماعي متراكم أم حراكًا عفويًا لجيل جديد من المغاربة؟

ظهور حركة جيل Z-212 في المغرب لا يمكن قراءته باعتباره حدثا طارئا أو راهنيا من ناحية الزمن الاحتجاجي، بل هو امتداد لمسار طويل من الحركية الاجتماعية والسياسية التي عرفها المجتمع المغربي منذ عقود. فالاحتجاج في المغرب لم يعد ظاهرة استثنائية، بل تحول إلى ممارسة اجتماعية مألوفة تعبر عن دينامية داخلية لمجتمع حي ومتفاعل، خاصة مع سماح السلطات العمومية بالتظاهر، وفتح مجال من الحرية والتعبير، ويمكن العودة لبعض المعطيات الرسمية بعدد الوقفات والمظاهرات في المغرب، إذ بلغ عددها سنة 2022 حوالي 11.874 تجمعا ووقفة، أغلبها ذات طابع سلمي. هذه الأرقام تكشف أن التعبير الاحتجاجي أصبح جزءا من المشهد العام.

وإذا عدنا قليلا إلى الوراء، يمكن القول إن سنة 2011 شكلت نقطة تحول في التاريخ الاحتجاجي للمغرب، حيث تفاعل المغاربة بقوة مع الموجة الإقليمية التي عمت العالم العربي آنذاك، حيث كان الحراك لحظة استثنائية في الوعي الجماعي، ليس فقط بسبب حجم المشاركة، ولكن أيضا بفعل الطريقة التي تفاعلت بها الدولة، وعلى رأسها المؤسسة الملكية، من خلال إقالة الحكومة، وحل البرلمان، وتعيين لجنة لصياغة دستور جديد حمل اسم دستور 2011، وهي لحظة استتنائية لم تشهدها البلاد تاريخها المعاصر. ومنذ تلك اللحظة، أصبح الفعل الاحتجاجي جزءا من الفضاء العمومي، وتوالت أشكال التعبير عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية، وإن كانت أغلبها فئوية ومحدودة في سقفها، ما بين مطالب الشغل والتعليم والسكن والعدالة الاجتماعية.

مع ذلك، فإن ما يميز اللحظة الراهنة هو أن موجة الاحتجاج الجديدة، التي حملت بصمة جيل Z-212، جاءت في سياق مختلف تماما، داخليا ودوليا. فهي أولا جزء من حركة عالمية أوسع تعبر عن جيل جديد في العالم، وصف بـ“جيل زد”، برزت حركاته في دول مثل إندونيسيا ومدغشقر ونيبال وغيرها، حيث خرج الشباب إلى الشوارع مطالبين بإصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر عدلا وشفافية. هذا الجيل، المولود في زمن الثورة الرقمية، لا يؤمن كثيرا بالوسائط التقليدية، بل يعبر عن ذاته من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، ويعيد صياغة لغته السياسية بوسائل جديدة ورموز ثقافية شبابية لا تتقيد بالإطار المحلي الضيق.

وفي المغرب، جاءت هذه الحركة في لحظة يتقاطع فيها الإحباط الفردي مع القلق الجماعي. فالمجالات الحيوية التي تمس حياة المواطن اليومية، وعلى رأسها الصحة والتعليم، تعرف تراجعا ملحوظا رغم المجهودات المبذولة. فحسب المؤشرات، لا يزال القطاع الصحي يعاني من ضعف التجهيزات وقلة الموارد البشرية، بينما يواجه قطاع التعليم أزمات متراكمة تتعلق بجودته وبمبدأ تكافؤ الفرص. ومع تفاقم البطالة التي بلغت حوالي 12.8% على المستوى الوطني، وقرابة 36% في صفوف الشباب ما بين 15 و24 سنة، يزداد الشعور بانسداد الأفق، خاصة لدى فئات واسعة من حاملي الشهادات الجامعية الذين بلغت نسبة البطالة بينهم نحو 19%، مما أدلى لواقع يغذي شعورا متناميا بعدم العدالة، ويدفع إلى البحث عن أشكال جديدة للتعبير عن الغضب والإحباط.

من جهة أخرى، ساهم ضعف التواصل الحكومي في تعميق الهوة بين الدولة والمجتمع، إذ تُعتبر الحكومة الحالية برئاسة عزيز أخنوش من أقل الحكومات انخراطا في الحوار العمومي المباشر مع المواطنين. ويعزى ذلك إلى غلبة الطابع التقني والاقتصادي على تركيبتها، في مقابل ضعف الحس السياسي والاجتماعي لدى العديد من أعضائها، فالوزارء الحاليين، لا يعرف لعدد منهم أي خلفيات أو تجارب سياسية تاريخية، بقدر ما يشكلون ثلة من التقنين ورجال الأعمال، الذين وإن كان لهم دور في تنمية قطاعاتهم، إلا أن ضعف قدراتهم التواصلية مع المواطنين، تجعلهم “وزراء أشباح”، كما أن الاهتمام المفرط بالمشاريع الكبرى والرمزية – سواء كانت رياضية أو بنيوية – على حساب المشاريع الاجتماعية التي تمس حياة الناس اليومية، زاد من شعور المواطنين بأن أولوياتهم لا تجد صدى في السياسات العمومية. هذا التناقض بين ضخامة الإنجازات المادية وضآلة الأثر الاجتماعي ساهم في تأجيج شعور جماعي بأن “الإنجاز لا يرى في تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين”.

تضاف إلى ذلك حالة من الإحباط النفسي والاجتماعي لدى الشباب المغربي، ناتجة عن تراجع الثقة في المستقبل وضعف الحراك الاجتماعي. فالكثير من الشباب يشعرون بأن جهودهم الدراسية لا تترجم إلى فرص حقيقية، وأن القنوات التقليدية للترقي والاعتراف باتت مغلقة أو محتكرة. وفي مقابل ذلك، تخصَص ميزانيات ضخمة لإنجاز مشاريع كبرى في آجال قياسية، في حين تبقى المشاريع الاجتماعية – كالمستشفيات والمدارس – بطيئة أو غير مكتملة. هذا التفاوت في الإيقاع والاهتمام يعمق الإحساس باللاعدالة ويخلق هوة نفسية بين المواطن والدولة.

ولعل ما يمنح حركة جيل Z-212 فرادتها هو طابعها الشبكي اللامركزي، إذ لا تتوفر على قيادة تقليدية أو تنظيم هرمي واضح، بل تعتمد على قوة الرمز والانتشار الرقمي. هي حركة تعبير أكثر منها حركة تأطير، تنطلق من الهواتف والشاشات، وتجد في الفضاء الافتراضي ساحة حقيقية للنقاش والحشد والتأثير. هذا الشكل الجديد من الاحتجاج يعكس روح جيل وُلد في زمن الإنترنت، ويتحدث بلغة الصورة والهاشتاغ والمقطع القصير، لكنه في جوهره يعبّر عن مطالب عميقة تتعلق بالكرامة، والعدالة الاجتماعية،

  1. ما أبرز المطالب التي يرفعها هذا الجيل؟ وهل تمثل أزمة ثقة أعمق بين الشباب ومؤسسات الدولة؟

في الحقيقة، المطالب التي رفعتها حركة “جيل Z-212” ليست جديدة، بقدر ما تمثل امتدادا لمطالب اجتماعية واقتصادية متكررة لدى الشارع المغربي خلال السنوات الأخيرة، لكنها اكتسبت زخما خاصا لارتباطها المباشر بسقف الوعود الحكومية. فالشباب المشاركون، على الرغم من حداثة تجربتهم السياسية، عبروا عن إدراك واضح للأولويات الوطنية بحسبهم، مركزين على ما اعتبروه إخفاقا في تحقيق الالتزامات التي أعلنتها الحكومة الحالية عند توليها المسؤولية، خصوصا فيما يتعلق بتجويد الخدمات العمومية في قطاعات الصحة والتعليم والشغل. هذه الثلاثية أصبحت محورا مركزيا في الشعارات، لما تمثله من أساسيات تمسّ الحياة اليومية للمواطنين، مقابل شعور بغياب التوازن بين الاستثمار في المشاريع الكبرى وبين تلبية الحاجات الاجتماعية العاجلة.

غير أن طبيعة المطالب وطريقة التعبير عنها تكشف أيضا عن ملامح أعمق لأزمة ثقة متنامية بين فئة واسعة من الشباب ومؤسسات الدولة، وخصوصاً المؤسسات التنفيذية والحزبية. فوفق استطلاعات الرأي الوطنية، ما يقارب ثلث الشباب فقط يعبّرون عن ثقتهم في الحكومة أو الأحزاب السياسية، لكن بالمقابل، فإن نسبة الثقة اتجاه المؤسسة الملكية مرتفع وبشكل ملحوظ، حيث تحظى بمكانة رمزية قوية في الوعي الجمعي المغربي. لذلك لم يكن غريبا أن تتوجّه الدعوات منذ الأيام الأولى للاحتجاج، بمطالبة الملك بالتدخل لـ”محاربة الفساد ومحاسبة المسؤولين الحكوميين عن ما يراه الشباب إخفاقا للحكومة في عملها خلال الأربع سنوات الماضية”. وهو ما يؤكد الحس السياسي لهؤلاء الشباب، بالتجوه نحو الملك، لتجاوز بطء القنوات الحزبية والمؤسساتية، وهو ما يعكس أيضا استمرار تمركز الثقة في رأس الدولة مقابل تراجعها في بقية البُنى السياسية والتنفيذية.

كما أن خلفية هذا الحراك لا يمكن فصلها عن سياق دولي أوسع عرف بروز احتجاجات مشابهة لجيل “زد” في بلدان آسيوية وإفريقية عدة، حيث يعبر الشباب عن تطلعات متقاربة تتعلق بالعدالة الاجتماعية وفرص العمل والمشاركة في القرار. هذه المقارنة تبرز أن الظاهرة في المغرب ليست استثناء بقدر ما هي امتداد لتحولات عالمية في أنماط الاحتجاج، إذ صار الشباب أكثر تنظيما رقميا وأقل ارتباطا بالأطر السياسية التقليدية، ما يمنح حركتهم طابعا جديدا يستحق الدراسة كجزء من دينامية اجتماعية عابرة للحدود، لا كحالة محلية معزولة.

  1. بعد مرور أكثر من أربعة عشر عامًا على خطاب الملك سنة 2011 الذي وعد بإصلاحات عميقة وتحسين المعيشة، كيف يقرأ الشباب اليوم حصيلة تلك الوعود؟ وهل نشهد اليوم عودة لخيبات الأمل نفسها؟

في الواقع، الصيغة التي طرح بها هذا السؤال توحي بنوع من الخلط في فهم طبيعة النظام السياسي المغربي وتوزيع الاختصاصات بين مؤسساته، وهو خلط شائع لدى من يقرأ التجربة السياسية المغربية من الخارج من دون استحضار خصوصيتها الدستورية. فالمغرب، وفق دستور 2011، يقوم على فصل متوازن للسلطات وتكاملها، حيث تضطلع المؤسسة الملكية بأدوار سامية تتعلق بضمان استمرارية الدولة وتوازن السلط وتوجيه الاختيارات الاستراتيجية الكبرى، في حين تمارس الحكومة، المنبثقة عن صناديق الاقتراع، السلطة التنفيذية الفعلية، وتتحمّل المسؤولية السياسية أمام البرلمان والمواطنين في تنفيذ البرامج العمومية وتحسين مستوى العيش. بهذا المعنى، فإن الملك ليس فاعلا تنفيذيا يوميا في تدبير الشأن العام، بقدر ما هو مرجع أعلى يحدد التوجهات الكبرى ويراقب حسن سير المؤسسات في إطار روح الدستور.

من هذا المنطلق، فإن تقييم حصيلة الوعود الإصلاحية التي انطلقت بعد خطاب 2011 لا يمكن أن يحمل للمؤسسة الملكية، بل يقاس أساسا بأداء الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين، والتي تناوبت عليها تشكيلات حزبية مختلفة. الشباب اليوم لا يعبرون عن خيبة أمل من الخطاب الإصلاحي نفسه، الذي ما زال يمثل تعاقدا وطنيا قائما، بقدر ما يعبرون عن شعور بالخذلان من ضعف وتيرة التنزيل العملي لتلك الإصلاحات، خاصة في القطاعات الاجتماعية الحساسة كالتعليم، والصحة، والتشغيل. فبينما تحقق تقدم ملحوظ في البنيات التحتية الكبرى، ظلت مؤشرات الولوج إلى الخدمات العمومية وجودتها دون التطلعات، مما خلق فجوة بين الوعود والواقع الملموس.

لهذا، فإن ما يفسر أحيانا كعودة لخيبة الأمل هو في جوهره مطالبة بإعادة ترتيب الأولويات الحكومية وإعطاء البعد الاجتماعي نفسا جديدا يتناسب مع الرؤية الملكية المعلنة منذ 2011، والتي شددت على العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. الشباب الذين يخرجون اليوم إلى الشارع لا يشككون في المرجعية الملكية ولا في صدقية التوجه الإصلاحي الذي أرسيت دعائمه في العقد الماضي، بل يعبرون عن حاجة إلى جيل جديد من السياسات العمومية القادرة على تفعيل تلك الرؤية على أرض الواقع، بما يضمن أن تتحول الوعود إلى مكتسبات ملموسة يشعر بها المواطن في حياته اليومية.

  1. في رأيكم، هل يمكن القول إن خطاب الملك الأخير أمام البرلمان جاء استجابة لمطالب هذا الجيل، أم محاولة لاحتواء حالة الغضب المتصاعدة؟

يمكن القول إن خطاب الملك محمد السادس أمام البرلمان، خلال افتتاح الدورة التشريعية الأخيرة، جاء في موعده المعتاد الدستوري وليس كرد استثنائي موجه خصيصا لحركة “جيل Z-212”. فالمؤسسة الملكية في المغرب تمارس دورا توجيهيا ورقابيا واستشرافيا وفق الدستور، بينما تقع على الحكومة مسؤولية التنفيذ اليومي للخدمات وتحسين المعيشة عبر سياسات وبرامج ملموسة. الخطاب الملكي فتح دورة برلمانية، وهو إجراء سنوي يعرف فيه الملك أمام ممثلي الشعب الأولويات والتوجيهات الاستراتيجية، لا خطابا طارئا كليا لمواجهة احتجاجات شعبية.

مع ذلك، لا يمكن تجاهل أن الخطاب احتوى إشارات قوية تمس مطالب الحراك الشبابي، من دون أن يشير إليه مباشرة. الملك دعا إلى ترتيب الأولويات بين المشاريع الكبرى والبرامج الاجتماعية والاقتصادية، وأكد على أهمية الصحة والتعليم والشغل، والحاجة إلى إيقاع أسرع في تطبيق برامج التنمية المحلية، مع مراعاة الفوارق الجغرافية وخاصة في المناطق الجبلية والهامشية.

بهذه الصيغة، بدا الخطاب وكأنه يعيد التأكيد على أن ما يشهده المغرب من حركية احتجاجية هو أمر طبيعي يدخل ضمن دينامية المجتمع المغربي، وليس حالة استثنائية أو مؤشرا على أزمة سياسية حادة تستدعي مرحلة انتقالية جديدة. فالاحتجاجات، بمختلف أشكالها، أصبحت جزءا من المشهد العام، تعبر عن تفاعل المجتمع مع أداء الحكومة وانتظاراته من السياسات العمومية، ضمن سير عادي ومفتوح للمجال العمومي الذي يتيح التعبير والمساءلة.

 

  1. برأيكم، هل سيستجيب شباب جيل Z-212 لدعوة الملك لتغليب مصلحة الوطن والتهدئة؟ أم أن فقدان الثقة بالوعود السابقة سيجعلهم أكثر تشددًا هذه المرة؟

يصعب الجزم بشكل قاطع بمسار تفاعل شباب “جيل Z-212” مع مضامين الخطاب الملكي، غير أن المؤشرات الراهنة توحي بأن جزءا واسعا من هؤلاء الشباب لا يتحرك بدافع القطيعة مع الدولة أو رفض البنية السياسية بشكل كلي، بقدر ما يسعى إلى التعبير عن مطالب اجتماعية واقتصادية يعتبرها واقعية ومشروعة. فخطاب هذا الجيل لا يعكس نزعة راديكالية بقدر ما يبرز رغبة في الإصلاح من داخل النسق السياسي الوطني، وهو ما يجعل تجاوبه بشكل إيجابي ممكنا، خاصة إذا اقترن الخطاب السياسي بإجراءات ملموسة تستجيب لتطلعاته في مجالات التعليم، الشغل، والصحة، وتمنحه إحساسًا حقيقيا بجدية الدولة في تفعيل التزاماتها.

كما لا يجب أن نهول أيضا من حجم هذه الحركة الاحتجاجية، ونعتبرها محطة حاسمة في مستقبل المغرب، ربما كان لأحداث العنف والشغب وسرقة المحلات وحرق البنوك والهجوم على قسم الدرك، فضلا عن الطريقة التي صورت بها من الناحية الإعلامية، تذهب في هذا الاتجاه، خصوصا مع حدوثها في أكثر من مدينة سواء بشمال المغرب أو جنوبه أو شرقه أو وسطه وغربه، لكنها ظلت محدودة من الناحية الزمنية والتأثير واقعيا، فتلك الأحداث كانت فقط في يومي 30 شتنبر والفاتح من أكتوبر، شارك فيها ما لا يقل عن 70 في المائة من القاصرين (أقل من 18 سنة)، لكن سرعان ما تمكنت السلطات الأمنية من احتوائها في وقت وجيز، لتستعيد الحركة الاحتجاجية بعدها طابعها السلمي المعتاد.

في المحصلة، يمكن القول إن المغرب استطاع، كما في محطات سابقة، أن يدير موجة الغضب ضمن حدودها الطبيعية، عبر الجمع بين الحزم الأمني والانفتاح السياسي. فاستمرار النقاش العمومي، وفتح الإعلام العمومي أمام أصوات مختلفة، والتصريحات الحكومية التي تعكس استعدادا لتصحيح الاختلالات، كلها مؤشرات على أن الدولة تراهن على الحوار أكثر من المواجهة. في ظل هذه المقاربة، من المرجح أن يميل شباب الحركة إلى الانخراط في دينامية الإصلاح، خاصة وأن الانتخابات التشريعية والمحلية في المغرب ستنظم في أقل من سنة من الآن، وهو ما يمكن أن يسهم في خلق بيئة سياسية تعمل على بروز حملات انتخابية مبكرة، ومحاولات لاستقطاب الشباب في التنظيمات الحزبية، وبالتالي توجيه حالة الغضب، نحو المساهمة في تصعيد أحزاب ووجوه جدية قادرة على تفعيل الإصلاح السياسي في البلاد.

  1. كيف تقيّمون أداء الحكومة الحالية في التعامل مع هذه الاحتجاجات؟ وهل تمتلك الأدوات السياسية والاقتصادية الكفيلة بتهدئة الشارع؟

في الحقيقة، لاحظنا خلال الأيام الماضية، توجها جديدا لدى أعضاء الحكومة في تعديل سياستهم التواصلية تجاه الرأي العام، حيث خرج أكثر من وزير للإدلاء بتصريحات صحفية، والمشاركة في مقابلات إعلامية، وإعلان تحمل المسؤولية، خاصة وزيري الصحة والتعليم. فمثلا وزير الصحة، تحدث بشكل واضح وصريح عن الأحداث المؤسفة التي عرفها مستشفى الحسن الثاني بأكادير، حيث وبسبب الإهمال الطبي ونقص المعدات، فقدت حوالي ثمانية نساء حياتهن أثناء الولادة، وهي الشرارة التي أججت الوضع الاحتجاجي في المغرب، وأسهمت في تأكيد مطالب جيل زيد لحظة خروجهم يوم 27 شتنبر 2025، حيث أكد الوزير على الإجراءات التأديبية والتحقيقية المتخذة في المستشفى، بما في ذلك إحالة نتائج التحقيقات إلى النيابة العامة وتعليق بعض المسؤولين الإقليميين إلى غاية انتهاء الأبحاث. هذا الظهور الإعلامي وإن كان مطلوبا لإظهار مسؤولية واستجابة، إلا أنه جرى بعد ضغط الشارع وتفاعله، ما يعكس أن خطوة التواصل جاءت ردا على أزمة أكثر منها مبادرة استباقية، وهو ما يظر

من جهة أخرى، اتسمت الاستجابة الحكومية بمزيج من الانفتاح على الحوار والقرارات الإدارية من جهة، والحزم الأمني من جهة أخرى، فالحكومة أعلنت استعدادها للحوار وتسريع بعض المشاريع ذات الطابع الاجتماعي، فيما سعت الأجهزة الأمنية الرد بحزم على حالات العنف المعزولة التي رافقت بعض الليالي الاحتجاجية، والتي شهدت تخريبا متعمدا لعدد من المحلات التجارية والبنوك والمؤسسات الخاصة والعمومية. مما يبرز بأن هذه المقاربة، تعطي انطباعا بأن الأدوات المتاحة لدى السلطات المغربية، تنقسم بين أدوات إدارة الأزمة الفورية (تحقيقات، إجراءات تأديبية، أمن)، وأدوات السياسة العامة الأبطأ (إصلاحات بنيوية في الصحة والتعليم والتشغيل) التي ستحدد مدى قدرة الحكومة على تهدئة الشارع بشكل مستدام، وهي إلى حد اللحظة ناجحة، خاصة مع عودة الهدوء للشارع، مع بقاء عدد محصور من الوقفات الاحتجاجية، والتي تعد ضمن السير العادي للفعل الاحتجاجي في البلاد.

وبالتالي فإن استمرارية نجاح هذا النهج، مرهون بمدى ترجمة الإشارات الخطابية والسياساتية إلى نتائج ملموسة في الخدمات الأساسية وفرص التشغيل، وبسرعة وشفافية في التنفيذ. إذا ظلت التحركات تقتصر على الخطاب والإجراءات الرمزية دون تأثير محسوس على أرض الواقع، فستظل قدرة هذه الأدوات محدودة في استعادة ثقة الشباب وإعادة تطبيع العلاقة بين الشارع والمؤسسات التنفيذية المتمثلة في الحكومة وأعضائها.

  1. إلى أي مدى تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا في توجيه الشارع وصناعة الوعي الاحتجاجي لدى هذا الجيل؟ وهل يمكن اعتبارها اليوم القائد الحقيقي للحراك؟

في اعتقادي، نحن نعيش اليوم ما يمكن تسميته بـ “الزمن الرقمي”، الذي استطاع أن يخلق تحولا عميقا في مفهوم “الفضاء العام” الذي انتقل من “الشارع” إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث صارت هذه الأخيرة، تلعب دورا محوريا في توجيه الشارع نفسه، وصناعة الوعي الاحتجاجي لدى الجيل الجديد، وهو الجيل الذي يمكن تسميته أيضا بـ”الجيل الرقمي”، حيث صار الرقمي، الفضاء الأساسي الذي تتشكل فيه المواقف وتتبلور فيه الرؤى الجماعية. فجيل اليوم هو جيل رقمي بامتياز، ولد ونشأ في بيئة اتصالية مفتوحة، لا تحتكر فيها الدولة أو المؤسسات التقليدية عملية إنتاج المعرفة أو توجيه الرأي العام. هذه المنصات لم تعد مجرد أدوات للتواصل، بل تحولت إلى فضاءات للتنظيم والتعبئة وتبادل الرموز والخطابات الاحتجاجية، ما أتاح لهذا الجيل إمكانات غير مسبوقة في التعبير الجماعي عن الغضب والمطالبة بالتغيير، بعيداً عن الأطر الوسيطة الكلاسيكية كالأحزاب والنقابات.

لذلك، فإن الوسائط الرقمية اليوم، أصبحت تمثل بالنسبة لـ “الجيل الرقمي”، فضاء جديدا ومتحررا ومفتوحا دون أي قيود، للمشاركة السياسية غير الرسمية، حيث يتم من خلالها بناء سرديات جماعية وتشكيل وعي نقدي تجاه القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فهي تمكن الشباب من تجاوز حدود الرقابة، وتتيح لهم إعادة تعريف الفضاء العام عبر إنتاج محتوى بديل يقاوم الروايات السائدة ويعبر عن واقعهم المباشر بلغة قريبة منهم. وبهذا المعنى، يمكن القول إن هذه الوسائط أصبحت فاعلا أساسيا في توجيه الحراك، إذ جمعت بين وظيفة الإعلام ووظيفة القيادة الرمزية، من خلال قدرتها على خلق زخم تعبوي وتنسيق افتراضي يترجم أحيانا إلى فعل احتجاجي ميداني منظم.

  1. هل ترون مؤشرات على أن هذا الحراك قد يستفحل ويتوسع مثل كرة الثلج، أم أن حدوده ستظل محصورة في التعبير الرمزي من دون أن يتحول إلى موجة اجتماعية أوسع؟

في اعتقادي، وبالاستناد إلى المعطيات الراهنة، لا يبدو أن الحراك الذي يقوده “جيل زيد” مرشح لأن يتطور إلى موجة اجتماعية واسعة على المدى القريب، رغم ما أبان عنه من قدرة على خلق زخم رقمي لافت واستقطاب اهتمام الرأي العام. فالفعل الاحتجاجي في المغرب ليس ظاهرة طارئة كما وضحت ذلك سابقا، بل يشكل جزءا من الدينامية المجتمعية المعتادة التي تتراوح بين التعبير الرمزي والمطالبة الميدانية، فالمغرب عرف محطات احتجاجية متكررة منذ عقود في قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة. الجديد هذه المرة هو أن الفعل الاحتجاجي ارتبط بجيل رقمي يستمد رموزه وخطابه من التجارب الاحتجاجية العابرة للحدود، كما في نيبال ومدغشقر وإندونيسيا وغيرها، مستفيدا من الانفتاح التواصلي الذي توفره الشبكات الاجتماعية، دون أن يترجم ذلك بعد إلى بناء قوة تنظيمية أو ميدانية قادرة على الانتشار الواسع.

لذلك، يظهر أن الحراك في نظري، ورغم زخمه الإعلامي الداخلي والخارجي، سيظل حبيس الفضاء الافتراضي، إذ أن قيادته الرقمية لا تمتلك أدوات التأطير الميداني ولا القنوات التقليدية للتعبئة المجتمعية، ما يجعل قدرته على الانتقال من الفضاء الرمزي إلى الفعل الجماعي الميداني محدود، وهو ما رأيناه سابقا، فحتى عدد المتظاهرين في الوقات التي يدعوا إليها لا تتجاوز بضع عشرات، مقارنة مع المسيرات الاحتجاجية الكبرى التي تأطرها الأحزاب السياسية أو النقابات أو التنظيمات التقليدية عموما. فالتفاعل الرقمي، رغم شدته وسرعته، لا يعني بالضرورة استعدادا للتصعيد أو المواجهة في الشارع، خصوصا وأن ليلتي الشغب اللتين عرفتهما بعض المدن تمت السيطرة عليهما بسرعة، وتبرأ منهما رموز الحراك أنفسهم، في محاولة للحفاظ على الطابع السلمي والرمزي للحركة.

مع ذلك، يمكن رسم سيناريوهين رئيسيين لمستقبل هذا الحراك. أولهما أن يستمر في شكله الحالي كحركة احتجاجية رقمية تعبر عن قلق جيل جديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، مع تراجع حضوره الميداني مقابل بقاء تأثيره المعنوي في تشكيل الوعي السياسي والنقاش العمومي، خصوصا بعد التفاعل الرسمي الذي تبع الخطاب الملكي الأخير واستضافة شخصيات معارضة وإعلاميين للنقاش حول المطالب المطروحة. أما السيناريو الثاني، الأقل احتمالا في المدى المنظور، فيتمثل في تحول الحراك إلى موجة اجتماعية أوسع في حال استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية أو ضعف الاستجابات الحكومية، وهو ما قد يدفع الجيل الرقمي إلى تجاوز حدود الفضاء الافتراضي نحو أشكال أكثر تنظيما من التعبئة الميدانية. غير أن المؤشرات الحالية تميل إلى السيناريو الأول، الذي يجعل من هذا الحراك تعبيرا رمزيا متقدما لجيل جديد، أكثر منه حركة احتجاجية جماهيرية قابلة للتوسع.

 

اقرأ أيضا