المظاهرات المليونية في المدن الأمريكية الكبرى، تحت شعار “No Kings”، كشفت عن فجوة صارخة بين الصورة الرسمية للديمقراطية الأمريكية والواقع الذي يعيشه المواطن الأمريكي نفسه. الديمقراطية التي تُقدَّم للعالم كمعيار للقيم الإنسانية تنهار أمام لوبيات المال والنفوذ، وتتحوّل إلى أداة لحماية المصالح الكبرى، وفرض السيطرة، وتبرير الحروب والعقوبات، واستغلال النفوذ السياسي والاقتصادي.
داخل الولايات المتحدة وخارجها، القيم الأمريكية لم تعد عالمية إلا بقدر ما تخدم مصالح رأس المال والسلاح واللوبيات الصهيونية التي تتحكّم بمفاصل أكبر دولة في العالم. الديمقراطية التي صدّرتها واشنطن بالنار والحديد تتفكك اليوم أمام الملايين في الشوارع، رافعين “No Kings”، رافضين ملكية مقنّعة بالانتخابات، ورئيسًا يتعامل مع شعبه بازدراء واستعلاء، كما تعاملت بلاده مع شعوب العالم الأخرى.
التاريخ يعلمنا درسًا قاسيًا: الشعارات الكبرى قد تبدو سامية، كما حدث في بدايات الاتحاد السوفيتي والشيوعية، لكنها تنهار عندما تنحرف الممارسة عن المبادئ. والسؤال اليوم: هل الديمقراطية الأمريكية، التي تحمي مصالح النخبة على حساب القيم الإنسانية، والرأسمالية المتوحشة التي تُصدّر نفسها كنموذج عالمي، ستواجه مصيرًا مماثلًا؟

هذه الاحتجاجات ليست مجرد صرخة داخلية؛ إنها مرآة للوجع العالمي، وكشف لزيف الديمقراطية التي صُممت لتكريس السلطة وليس لحماية القيم الإنسانية.

من واشنطن إلى غزة… كيف سقط القناع؟

لطالما تغنّى الغرب، والولايات المتحدة في طليعته، بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
منذ الحرب العالمية الثانية كانت هذه السردية بمثابة “الهوية الأخلاقية” التي تبرّر تدخلاته العسكرية والاقتصادية في العالم. غُزيت شعوب ودُمّرت دول وقسمت أخرى تحت لافتة “نشر الحرية” و”دعم حقوق الإنسان”، بينما كانت الحقيقة أبعد ما تكون عن تلك الشعارات.

ما كشفه عهد دونالد ترامب، في ولايته الثانية ما سُمّي بـ”العالم الحر” لم يكن سوى واجهة مزخرفة لإمبراطورية لا تتردد في الدوس على مبادئها حين تمسّ مصالحها.

من بغداد إلى غزة… ديمقراطية الدمار

العراق، ليبيا، أفغانستان، السودان، سوريا، وغزة، كلها شواهد على ما بسميه الغرب ”نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان”. تحت هذه اللافتة، سالت الدماء، وتفككت الدول، ودُمرت البنى التحتية، وسُرقت الثروات. لم يكن الهدف الحرية، بل السيطرة. تلك الديمقراطية التي جاءت على ظهور الدبابات لم تنتج إلا فوضى مستمرة تبقي المنطقة أسيرة الحاجة إلى “المنقذ الأمريكي”.

لكن المفارقة الكبرى جاءت من داخل البيت الأمريكي نفسه. الملايين من المواطنين انتفضوا في شوارع نيويورك وواشنطن ولوس أنجلوس، مطالبين بالمساواة والعدالة، فواجههم الرئيس ترامب بالسخرية والإهانة. ظهر في مقطع مصوّر يقذف القاذورات على المحتجين من طائرة، في مشهد رمزي فاضح، وكأن كل القيم التي طالما تغنّى بها الغرب تُرمى في سلة المهملات.

المتظاهرون رفعوا شعار “No Kings” (لا ملوك بعد اليوم) رفضًا لتحوّل الديمقراطية الأمريكية إلى ملكية مقنّعة، يتوارث فيها النفوذ من إدارة إلى أخرى، بينما يظل الشعب مجرد ديكور انتخابي في مسرحية باهتة، تكشف عن زيف كل الشعارات التي طالما سوقها العم سام للعالم، وداخل بلده نفسه.

ديمقراطية المال لا ديمقراطية الشعب

وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل ما يجري في الولايات المتحدة حقًا يمكن أن يُسمى ديمقراطية؟
كيف يمكن الحديث عن حرية الإرادة الشعبية في نظام تتحكم فيه اللوبيات المالية والإعلامية؟
هل يستطيع أي مواطن أمريكي، مهما بلغت كفاءته، أن يحلم بالوصول إلى الكونغرس أو البيت الأبيض دون دعم من “الولي المالي” الذي يرسم خريطة السياسة الأمريكية، من الأيباك إلى الشركات العملاقة ونوادي المال المتنفذة؟
الديمقراطية الأمريكية، في جوهرها، لم تعد تعبيرًا عن إرادة الشعب، بل عن إرادة رأس المال. هي ديمقراطية مزيفة الشكل، تُنتج نخبة سياسية واحدة بأوجه مختلفة، وتُقصي كل من يتجرأ على المساس بالمصالح الكبرى.
اللوبيات تتحكم في صناعة السلاح واستعماله، تصوغ القوانين، توجه الإعلام، وتحدد حدود المسموح والممنوع في الخطاب العام. حتى حرية التعبير، التي طالما قُدّست في أمريكا، أصبحت مشروطة بما لا يزعج الممولين أو يمسّ “إسرائيل” أو ينتقد السلاح والاحتلال والحروب.
فأي ديمقراطية هذه التي تُقاس فيها الكلمة بالتمويل، والكرسي بالولاء المالي، والعدالة بالمصالح؟
وأي نموذج يمكن للعالم أن يحتذي به، إذا كان الوصول إلى الحكم لا يمرّ عبر الشعب، بل عبر أبواب البنوك واللوبيات؟

اليوم، لم يعد العالم ينظر إلى واشنطن كما كان يفعل قبل عقدين. الترامبية كشفت زيف السردية، وأعادت تعريف الديمقراطية الأمريكية كسلطة محصّنة بالمال لا بالمبادئ.
العالم الحر لم يعد حرًا، والديمقراطية التي كانوا يتحدثون عنها لم تعد ملهمة لأحد.
ففي زمن تُمنع فيه المساعدات عن الأطفال الجائعين في غزة بقرار من “زعيمة العالم الحر”، يصبح السؤال الأخلاقي أكثر إلحاحًا:
من يحتاج إلى دروس في الإنسانية؟ ومن يملك الحق في الحديث عن الديمقراطية؟